ممن نأخذ الدين والفكر الديني؟
ممن نأخذ الدين والفكر الديني؟
في نظر آية الله قاسم (حفظه الله)
مجلة رسالة القلم : ممن نأخذ الدين والفكر الديني؟ في نظر الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله)
2016-04-13 | الشيخ محمد علي خاتم | العدد 38
لقد بعث الله (عزَّ وجلَّ) رسوله الكريم ليبلّغ الدّين إلى الناس كافة ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين﴾(1)، وقرن المبلِّغ بدستور ترجع إليه الأمّة الإسلامية فيما لو انتقل -أو من جعلهم خلفاء- إلى الرفيق الأعلى، وتعهّد الله (عزَّ وجلَّ) بحفظ هذا الدستور ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(2)، فما هو موجود بين أيدينا هو الدستور الذي تعهد الله (عزَّ وجلَّ) بحفظه وعندنا ما اهتم المسلمون في حفظه من نصوص عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) ومن خلَفه من المعصومين (عليهم السلام)، والسؤال المهـم الـذي يُطـرح هنـا ممن نأخذ الدين فِكراً ومنهجاً؟ مَن يحدد هذا الدين؟ مَن يبرز أسراره الكامنة في هذه النصوص التي تتناسب مع كل عصر.
هل يوجد في الناس فرد واحد بإمكانه أن يقوم مقام النبي في ذلك؟ هل يوكل الأمر إلى مجموعات تتضارب أفكارهم في فهم الدين تبعا لمذاهبهم ومدارسهم الفكرية، فقد تشط الآراء وتتباين في إصدار فتوى أو حكم أو تحديد مفهومٍ، فبين الاحتياط والتجديد والوسطية والعقلانية حتى وصل الأمر عند البعض إلى التعدّي على الثوابت الدينيّة بدعوى القراءات الجديدة للنص الديني، ناهيك عن المستشرقين والعلمانيين وغيرهم من أعداء الإسلام الذين يلعبون دوراً بارزاً في حرف المفاهيم الدينيّة وإدخال الأهواء في تحديدها.
وهذا يجعل المطالعات في الفكر الديني تصعب وتتعقّد لا سيّما بعد تعمّد الدس للسم في العسل “…الجيل الحاضر نال قسطاً من التعلّم وبدأ يقرأ الكثير، والسوق مليئة بالرديء وبالوافد وبما ينـزله العدو الأسواق من أجل أن يقرأ… هناك فنٌ ساحرٌ في إخراج الكلمة يتملكه الفكر العالمي الاستكباري والمدرّبون على يده في البلاد الإسلامية إنه لفنٌ ساحرٌ جذاب، وإن الفكرة الهزيلة لتكبر من خلال هذا الفن وهي على خوائها، وإن الباطل ليتراءى حقاً في نظر القارئ وهو باطلٌ حتى النخاع.
حين يبدأ الشاب في القراءة بهذا الفكر الوافد، وبهذا النتاج الساقط، والمخطط للإنسان المسلم من خلاله، يبدأ رحلته بالضياع وبالتيه، وصعبٌ بعد الضياع الفكري والتيه في النفس، أن يرجع المرء إلى درب وأن يهتدي إلى الجادة، فهو إن اهتدى إلى الجادة، فمن بعد شوطٍ طويل وهذا الشوط الطويل يستغرق عمراً عزيزا، وأياما غالية، والنفَس الواحد عند الإنسان المسلم أغلى من هذه الدنيا وما فيها حيث إنه مؤهلٌ لأن يورثه جنة الخلد وحياة الأبد السعيدة”(3)، وهذا لا يعني أن نحجر على أجيالنا لحدّ الجهل فنمنعهم من الاطلاع، ولكن لا بد من الالتفات إلى أن “هناك أولويات في القراءة ولا بد من قراءة الفكر الإسلامي أولاً، لا بد أن تتغذى بالفكر الإسلامي من مصادره الأصيلة، ومن مدارسه المعروفة المشهورة المسلّم لها إسلاميتها، ومن بعد ذلك لك أن تقرأ ما تحتاجه من أجل مواجهة الباطل ومن أجل الاستفادة من الفكر الآخر في بعض زواياه، والفكر الآخر على المستوى الإنساني دائماً يستهدف الهدم ودائماً يستهدف التحطيم وأنت إذا أردت أن تستفيد إنما تطلب ذلك من خلال الفكر العلمي، من خلال علم الفلك، من خلال علم الأحياء، من خلال الصناعات، من خلال التقنية الحديثة، من خلال هذا العلم الحيادي من صناعة الإنسان.
أما تلك العلوم التي تأخذ على عاتقها أن تصنع نفسية الإنسان، أن توجّه إرادته، أن توفر له قناعاته، فهذه العلوم إذا جاءت من المستنقع فهي لا تحمل إلا جراثيم القتل للروح والفكر والإرادة.
وحتى داخل الفكر الإسلامي لا بد من الأخذ بالأولويات وأول كل الأوليات في داخل الفكر الإسلامي: هو ما يصحح للإنسان عقيدته ويعرّفه بربه (سبحانه وتعالى).
ثم يأتي ما يحتاجه من عمل يومي من أمرٍ ونهيٍ وما إلى ذلك وتقويم النفس بالخُلُق الكريم، ويستطيع الإنسان المسلم أن يتوسع في ثقافتها أيما توسع ويستطيع أن ينتقل من الدائرة الإسلامية إلى الدائرة الأخرى وأخذ الجيّد والقذف بالرديء في وجه أصحابه”(4).
مفاهيم الدين على قسمين:
1- مفاهيم إسلامية يسيرة يمكن لمن يطّلع على القرآن وشيء من الروايات أن يدركها ولو بوجه ولا تحتاج إلى إعمال النظر الشديد والدقيق فيها كوجوب الصلاة ولزوم المحافظة عليها وعلى القرآن ومكانة المؤمن وغيرها مما يمكن دخوله في هذه الدائرة، وليست هذه محل الكلام ولا تشكل خطورة لوضوحها عند الجميع وعدم تمكّن أحد في أن يدّعي ما يناقضها لأنه سيدّعي ما يناقض الصريح، وهذه مساحة متروكة للأمّة في أن تتعامل معها وتستخرجها فهذا القسم ليس مربوطاً بالاجتهاد فضلاً عن أن يكون مقتصراً على المجتهدين، فالإسلام قد خاطب الإنسان بما هو إنسان ولا يصحّ القول بعدم إدراك الإنسان لشيء من مفاهيم الإسلام “هذا لا يصح لما يلزم من لازم باطل وهو أن تكون الأمّة في غيابٍ عن إسلامها وفي جهلٍ قاتل”(5).
2- “مفاهيم إسلامية دقيقة غامضة لا يتم استنباطها إلا من خلال قدرةٍ علميةٍ وتخصصٍ خاص” وهذا النوع من المفاهيم يتوقف على إعمال الجهد وبذل الوسع في استخراجه فيأتي السؤال من الذي يبذل هذا العناء والجهد في بيان ما يحتاج إلى جهد؟
الجواب على فرضين:
● قد “يجتهد من كان أهلاً للاجتهاد ومن لم يكن أهلاً للاجتهاد في تحقيق وتدقيق هذه المفاهيم، وهذا خلاف السيرة العقلائية في أي مجال من مجالات العلوم وأن فاقد الشيء لا يعطيه، والصحيح في الكلمة أن فاقد القدرة على الكلمة لا يعطيه”(6) فلا بد من ترك المساحة إلى من كان أهلا للاجتهاد.
● وقد “نأخذ مفاهيمنا الإسلامية ونتعبد بها من جهة الإنسان العالم المسلم المدقق المحقق وكذلك من جهة المثقف بالثقافة الغربية أو الخليطة.
أن نأخذ مفاهيمنا الإسلامية من كاتبٍ صحفي، امتلك فن الكتابة ولكن لم يمتلك بعد مقومات الفكر وأسسه، ولم يمتلك فن الاجتهاد في الإسلام.
[ويحق لنا أن نتسائل مبطلين هذ الفرض]
هل يصح لنا أن نأخذ مفاهيمنا الإسلامية من كل مشرّق ومغرّب، وأن نساوي بين العالم المسلم المتخصص، الذي بذل جلّ عمره وعصارة عمره في درس الإسلام وفهم الإسلام، وكان له من كفاءته ما يؤهله لهذا الاجتهاد، هل نساوي بين هذا وبين من استطاع أن يكتب قصة؟ أو تثقف بالثقافة الغربية وأخذ ضغثاً من هذا وضغثاً من ذاك، ضغثاً من الثقافة الغربية وضغثاً من الثقافة الإسلامية.
هذا فرضٌ ساقط”(7).
النتيجة:
ومن هنا نستنتج أنه “لا بد من مرجعية إسلامية، في المفاهيم الإسلامية، كما تحكم الضرورة بالمرجعية الإسلامية في الفروع الفقهيه”(8).
إشكال:
قد يقول المثقف العربي: إني أحترم النص بل أقدّسه ولكني أرفض تمام الرفض أن يُجعل المجتهد هو الوصي عليه، فالنص عربي وقد ألقي إلى العرف أي إلى من ليس مجتهداً، فلا يحق للمجتهد أن يتفرّد بالتفكير عن بقية المسلمين، لأن المسلمين ليسوا عاجزين عن أخذ الدين من مصادره حتى يكون المجتهد وصيّاً عليهم وأنه هو الممثل الوحيد للدين ولا يستطيع غيره فهم الدين أي أنه يعسر أو يتعذّر فهم الدين من دون المجتهد، وأنه الفرد الوحيد الذي يطبَّق الدّين على يده وأنه هو صاحب العقيدة الصحيحة وصاحب الفكر الصافي… فأنا المثقف لا أُسلّم بالنتيجة المذكورة فليس المجتهد وصيّا على الدين.
الجواب:
يبتني هذا الإشكال على طرح مقابلةٍ بين مفهوم الدين ومفهوم الفكر الديني وأصل المقابلة مقبولة ولكن لا نسلّم بطريقة عرضها.
أما الطريقة الخاطئة التي يروجون لها هي بأن يقال: إن “الدين هو ما جاء به الوحي من عند الله (سبحانه وتعالى)، هو الإسلام في صورته التي في ذهن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والمعصومين من بعده، الإسلام بمضامينه الواقعية وبمراداته الحقة المطابقة لواقع ما أراد الله (سبحانه وتعالى)، هذا هو الدين، هو الإسلام. أما الفكر الديني، الفكر الإسلامي، فهو فهم غير المعصوم للدين اجتهادا. هذه الاجتهادات: على المستوى الفقهي، وعلى مستوى بعض التفاصيل في العقيدة، على مستوى المفهوم الإسلامي، على مستوى الأطروحة الإسلامية، النظام الإسلامي العبادي، النظام الإسلامي الاقتصادي، النظام الإسلامي السياسي، الاجتهادات في كل هذه الدائرة لا تمثل الإسلام، وإنما يمثل الفكر الإسلامي.
ماذا يترتب عند المروّجين لهذه المقابلة، وهي مقابلة حقة؟ في الصحيح أن هناك ديناً وهناك فكراً دينيا، وأن الإسلام يختلف مستوىً عن الفكر الإسلامي، إذا كان المعني بالفكر الإسلامي هو المطروح. لكن ماذا يترتب عندهم على هذا التقابل؟ ما يروجه الغرب أولاً والمثقفة على يد الغرب، هو أن القدسية والاحترام والتعامل الإيجابي، إنما يكون مع الإسلام، مع الدين، أما الفكر الديني، الفكر الإسلامي، فهو فكر بشري لا يمتلك أي قيمة استثنائية، لا يمتلك أي قيمة تعطيه خصوصية الاحترام والتقدير والتقديس، إنه فكر اجتهادي كأي فكر اجتهادي آخر، في أي حقل من الحقول، وهذا الفكر الاجتهادي لا يصح أن يقود البشرية وأن يخضع له المجتمع، وأن يتعبّد به المكلفون، وأنه لَفكر اجتهادي غير مقصور على فئة معينة تحتكر لنفسها فهم الدين، وتجعل لنفسها على الدين الوصاية، إن هذه الوصاية من الفقهاء والمجتهدين، في حقول المعرفة الإسلامية، وصاية مرفوضة، ومن حق كل مثقف أن يتعامل مع القرآن ومع السنة، وأن يقدم بحسب اجتهاده الأحكام والمفاهيم والرؤى الإسلامية والأطروحات والنظم الإسلامية على مستوى الاجتهاد، وربما فاق المثقف بالثقافة الغربية التي عايشت الميدان كثيرا، واكتسبت خبرة في مجال السياسة، أو في مجال الاجتماع، أو في مجال الاقتصاد، أو في مجال الطب، أو في مجال الهندسة، قد يفوق اجتهاد هذا المثقف بالثقافة الغربية في قيمته العلمية، قيمة اجتهاد المجتهدين، المتخصصين بدراسة العلوم الإسلامية، في مثل الأزهر، في مثل قم، في مثل النجف الأشرف.
إذاً لا معنى لهذا الارتباط من الأمّة، بهذه الفئة الخاصة، فئة الفقهاء والمجتهدين، ولا معنى لأن يتوقعوا من هؤلاء أن يقدّموا لهم فكراً إسلامياً ذا قيمة خاصة. فصحيح أننا نحترم الإسلام، نقدر الإسلام، نقدس الإسلام، لكن بمراداته الواقعية، بنصه، أما هذا النص الذي يقدمه لنا الآخرون، هو فهم بشري لا يمتلك أي قيمة وأي قدسية تفرض نفسها على الأمّة ومكلفيها”(9).
أما الطريقة الصحيحة لطرح هذه المقابلة بالقول: إن “هناك فرقاً بين ما هو دين وبين ما هو فكر ديني، بين الدين الواقعي والدين الاجتهادي. الدين الواقعي دين لا يمسه التغيير أبدا، دين هو واقع ما أراد الله (سبحانه وتعالى)، ويمثل الحل الكامل الدقيق للمشكلة البشرية. أما الإسلام الاجتهادي فهو أقرب صورة إلى الإسلام، يمكن أن تتأتى للأمّة في غياب المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم، حينما يكون للمعصوم (عليه السلام) التواجد المكشوف في الأمّة، ويكون هو المرجعية، فالمعصوم يقدّم لنا إسلاماً حقيقياً واقعياً دقيقاً، يقدم لنا فهماً قرآنياً لا شوب فيه. أما المفسر الإسلامي القدير، والفقيه الإسلامي الكبير، وكل المتخصصين في الدراسات الإسلامية تخصصاً حقيقياً فإنهم يقدّمون لنا صورة عن الإسلام، قد يدخل في هذه الصورة تأثير محدودية فهم هذا المجتهد وذاك، وما قد يضغط على هذا المجتهد أو ذاك، من عالم اللاشعور في داخله، فهو يقدّم لنا أقرب صورة للإسلام أمكنت له على أساس من عامل الاجتهاد والتقوى، أما أنه يقدّم لنا الإسلام الواقعي فهو الشيء الذي لا يدعيه أي مجتهد من المجتهدين، وأن كل ما يقوله هو الإسلام الحق، هو الإسلام الأصل.
لكن هذا الإسلام الاجتهادي إما أن يكون في زمن غيبة المعصوم (عليه السلام) هو مرجع الأمّة، وهو مرجع المكلف في عباداته ومعاملاته وكل مساحات حياته، وكل مساحات الأمّة، وإما أن يكون البديل هو الفهم الواقعي للإسلام والذي لا يمكن في حال من الغيبة بصورة مطلقة، يعني لا يمكن لنا أن نتوفر على إسلام شامل كامل واقعي، وإن كان الإسلام الواقعي نحن متوفرون عليه الآن في مساحة كبيرة من المساحة الفكرية ومساحة المفاهيم والمساحة العقيدية بلا أدنى إشكال. حينما نقول بأننا الآن نتوفر على إسلام اجتهادي لا يعني ذلك أننا نفتقد الإسلام الواقعي بالكامل، إن مساحة كبيرة من مساحة الفكر، ومساحة العقيدة هي في أصولها بالكامل مساحة واقعية، بعض تفاصيل الناحية العقيدية، مساحة الفكر في جزء كبير منها هو إسلام واقعي. المفاهيم كثير منها هي مفاهيم واقعية، تمثل الإسلام الواقعي: المواقف ثلاثة إما أن نأخذ بالإسلام الاجتهادي، وإما أن ننتظر الإسلام الواقعي وظهور المعصوم (عليه السلام) ليقدّم لنا ذلك الإسلام، فنعطّل الإسلام، حتى ظهور المعصوم (عليه السلام)، أو نرجع إلى كل رأي اجتهادي، من أي مثقف من المثقفين، تعطيلُ الإسلام معلوم بالضرورة أنه غير جائز، والأخذ بالإسلام الاجتهادي هو ما دلّت عليه النصوص الواردة من الأئمة (عليهم السلام)، وما تقود إليه السيرة العقلائية، وما يقضي به العقل العملي.
الرجوع إلى الإسلام الاجتهادي من أي مستوى من المستويات مخالف لمقتضى العقل، العقل لا يرضى للجاهل أن يقود الجاهل، العقل يقول بتقليد الجاهل للعالم وليس بتقليد الجاهل للجاهل، والمثقف غير المختص في الدراسات الإسلامية، بالنسبة للدراسات الإسلامية عامي، ودقيقٌ هو اصطلاح الفقهاء على مجموع الأمّة بكل مستوياتها العلمية العملاقة بأنهم عوام من الناحية الفقهية، حيث لا اختصاص لهم بها، وحتى الدارس بالدراسات الفقهية المعمقة إلى حد كبير، إذا لم يبلغ درجة الاجتهاد فهو من حيث الفقه عامي، وكذلك الفقيه عامي من حيث الطب، لماذا نستوحش من هذا الاصطلاح؟ هذا اصطلاح علمي دقيق صارم لا مجاملة فيه، الفقيه غير الطبيب من حيث الطب عامي، من حيث الهندسة عامي، والمهندس المتضلع من حيث الفقه إذا لم يكن فقيهاً فهو عامي، فالعامي هنا جاهل بالإسلام، ولا صحح العقل أن يرجع الجاهل إلى الجاهل، ويقلد الجاهل الجاهل، سيرة العقلاء وعرفهم أيضاً بعيد كل البعد عن الموافقة على أن تكون المرجعية للجاهل، وإنما تكون المرجعية للعالم، وهكذا النصوص ترفض مرجعية الجاهل.
فإذاً هناك فرق كبير بين الإسلام الاجتهادي الذي تنتجه عقلية علمية فقهية متخصصة، أو تفسيرية متخصصة توفرت على كل ركائز الاجتهاد وأعمدته المطلوبة في فهم المختصين، فرق بين هذا الفكر الإسلامي الاجتهادي، وبين فكر إسلامي ينتجه شخص له اختصاصه الآخر الخاص والذي يمثل مرجعية محترمة في اختصاصه لكن لو أراد أن ينصّب نفسه مرجعية في اختصاص هو غير اختصاصه فهو غير مخلص لقضية العلم والموضوعية، بعيد كل البعد عما هو عليه العقل والعقلاء والنصوص الشرعية”(10).
وبعد هذا نستنتج نتيجة أخرى وهي أن “الإسلام الاجتهادي له قدسية، الإسلام الاجتهادي حيث يكون من المجتهدين المختصين له درجة من القدسية، صحيح أنها لا تبلغ قدسية الإسلام الواقعي، ويجب على المكلفين، ويجب على الأمّة، الأخذ بالإسلام الاجتهادي، كما يجب عليهم الأخذ بالإسلام أيام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) والمتلقى من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله). المنقول عن الإمام (عليه السلام): الراد عليهم -يعني الفقهاء- كالراد علينا، والراد علينا كالراد على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) والراد على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كالراد على الله (سبحانه وتعالى)”(11).
ولا بأس بطرح مثال عرفي لترسيخ هذه النتيجة في النفوس
“أنت لا تستطيع أن ترد الجريدة الرسمية حيث تنشر لك القوانين. قد تخطأ الجريدة الرسمية خطأً مطبعياً، وقد يتعمّد متعمّد من المسئولين عن الجريدة الرسمية الخطأ في نشر قانون من القوانين. الجريدة الرسمية تبقى حتى مع احتمال الخطأ فيها، هي المرجع الرسمي المحترم، ولست معذوراً حين تقول أنا لن أرجع إلى الجريدة الرسمية في القانون الفلاني، لاحتمال الخطأ فيها. فلا يقبل منك الرسميون، المحاكم لا تقبل، الجهات التنفيذية لا تقبل، توقّع عليك العقوبة حين تخالف مؤدى الجريدة الرسمية في قانون من القوانين، ولو اعتذرت باحتمال الخطأ.
أيضاً الله (عزَّ وجلَّ) في فهمنا لا يقبل منك العذر في رد قول مقلَّدك، حين تقول أنا أحتمل أن مقلدي في اجتهاده لم يوافق الواقع، عدم موافقة الواقع ربما جاءت حتى في احتمال مجتهدك، وهو معذور فيه، وهو لديه الحجة في أن يطبق سلوكه على فتواه الاجتهادية، ولك الحجة، وعليك الحجة في تطبيق فتوى مقلدك وتطبيق سلوكك على هذه الفتوى حتى مع احتمال المخالفة للواقع. ويبقى فرق بين الإسلام الواقعي والإسلام الاجتهادي، يبقى فرقان، فرق أن الحل الدقيق الكامل الشامل لمشكلات البشر، يحققه الإسلام الواقعي 100%، وقد يحققه الاجتهادي بنسبة 80%، قد يقدّم لنا الإسلام الاجتهادي في الاقتصاد وفي السياسة، بدرجة وفي مختلف حقول الحياة، حلاً لمشكلات البشرية بمقدار 80% وبمقدار الإصابة للواقع، وقد يأتي فوق ذلك توفيق من الله (سبحانه وتعالى) وتسديده وتكميل النقص من ناحية عملية، رحمة بالعباد وجزاءً لهم على تمشيهم مع مقتضيات الشريعة. ونضمن أن مشكلات البشرية تحل بالكامل وبدرجة 100% في ظل تطبيق الإسلام الواقعي، هذا فرق”(12).
دفع توهّهم
بعد أن أعطي المجتهد هذه الخصوصية فهل يحتمل أن له الحق في تغيير ما هو ثابت في الدين بما يراه مناسبا؟ وهل يبقى اجتهاده مقدّسا لا يجوز نقضه؟ الجواب: لا، فـ”الإسلام الواقعي لا يصح بعد معرفته أن يمس بالاجتهاد، إذا عرفت أن هذا الحكم هو حكم الله وجداناً علمنا وتيقنا أن الصلاة واجبة في الإسلام وهذا ضروري من ضروريات الإسلام، لا يكون لأي مجتهد مهما علا قدره أن يقارب باجتهاده أو يلامس هذا الحكم. إن له من القدسية ما يجعله في منعة وعصمة من أن يمسه الاجتهاد من أي مجتهد. أما الرأي الإسلامي الاجتهادي الداخل في الفكر الاجتهادي الإسلامي، فيمكن أن يتغير من خلال عملية اجتهادية لمجتهد آخر، لمجتهد وليس لغير مجتهد، الفكر الإسلامي الاجتهادي يمتلك حرمة قدسية أمام الفكر غير الاجتهادي ولا يمتلك قدسية أمام نفس الفكر الاجتهادي، هذا فكر اجتهادي أنتجته عقلية اجتهادية لفلان، يمكن أن يأتي عليه النقد من عقلية اجتهادية لفلان الآخر”(13).
معيار الفكر الإسلامي:
وهنا سؤال مهم جداً وهو “هل كل فكر ينسبه صاحبه للإسلام يدخل في الفكر الإسلامي؟ هل كل ما يكتب من كتب، وما ينشر في الصحف، وما يدبج من مقالات يصح أن يدخل في فهمنا، في دائرة الفكر الإسلامي؟”(14).
الجواب: “لا، ما يدخل في دائرة الفكر الإسلامي هو نتاج فكر اجتهادي، قد توفر على كل مقومات الاجتهاد في نظر المختصين الإسلاميين ما لم يصل الشخص إلى حد الاجتهاد في التفسير، ففكره التفسيري ليس فكراً إسلامياً، السيد محمد حسين الطباطبائي -أعلى الله مقامه- تفسيره تفسير اجتهادي وهو داخل في الفكر الإسلامي. لماذا؟ لأنه يمتلك عقلية اجتهادية بشهادة كل المختصين وأنه قطع رحلة طويلة مع كل المقدمات التي تؤهل عقليته لهذا المستوى الاجتهادي، لماذا لا يكون تفسير شخص يكتب عن سورة الحمد بثقافة غربية أو بثقافة شرقية من الفكر الإسلامي؟ ذلك لأنه لم يتوفر على أسس الاجتهاد الصحيح، فيجب أن نميز أيها الأخوة بين ما هو فكر إسلامي وبين ما هو ليس بفكر إسلامي”(15).
خطأ خطير:
“تسمع في أوساطنا الشبابية كلمات من نوع لا وصاية، لا صنمية، لا هيمنة فكرية، لا ولاية لأحد على أحد، وهذه الكلمات تحتاج إلى تحديد ما يُراد منها، وإلى تدقيق في مؤداها ليعرف مدى الحقانية لهذه الكلمات في ما تريد من تركيزه من فهم، والترويج له من فكر”(16).
لذا نقول: لا يصح أن نطلق كلمة مفكّر إسلامي على كل أحد فليس من الصحيح أن “نطلق الكلمات على عواهنها وهذا من الخطأ، متى نطلق على الشخص بأنه مفكر إسلامي؟ نطلق عليه حين يمتلك عقلية اجتهادية في حقل من حقول المعرفة الإسلامية”(17).
لا تروّج ما هو خطأ:
الآن وبعد أن ثبت إبطال التصوير الخاطئ للمقابلة بيّن الدين والفكر الديني وطرحنا المقابلة الصحيحة، نقول: احذر وحذّر من ترويج تلك المقابلة الباطلة ولو تأمّلنا فيها لوجدنا المستوى الكبير جداً من الخطورة في ترويج تلك الفكرة وما يترتب عليها من أثر فاسد؛ لأن”الغرض[منها] هو:
إسقاط قيمة الفكر الاجتهادي، وفصل نفسية الأمّة عن المؤسسة الفكرية على يد المختصين، هو عزل الأمّة نظرياً وعملياً عن الفقهاء، قادة الأمّة، وهو إسقاط كلمة الفقهاء، تمييعها.
جعل المثقف بالثقافة الغربية والمثقف بالثقافة الملتقطة، جعل كلمته مساوية لكلمة الفقيه.
تشتيت الأمّة وجعلها ترجع إلى كل ناعق، [يراد لكلّ أحد أن يكتب باسم الفكر الإسلامي وهو غير مؤهل لذلك فترجع](18) إليه الأمّة فيضيع الإسلام.
المطلوب [هو] أن يضيع الإسلام، وأن ينفصل المسلمون والمؤمنون عن قيادتهم الدينية.
هذا هو غرض الترويج بما وراءه من خلفية، وبما وراءه من نتائج يرتبونها علناً أحياناً على القول بالفرق بين الدين والفكر الديني”(19)، وإذا فسح المجال لكل ناعق “فقد تُروّجُ مفاهيم غير واضحة ولا محددة في أوساط المسلمين فتُحدث ارتباكاً فكرياً، وغَبًشاً في الرّؤية، وخللاً في التّصوّر ممّا يؤثّر بصورة ضارّة على فهم شريحة واسعة من الشباب المسلم للإسلام، ويُحدث حالة من الغربة عندها عن الفكر الإسلامي الصحيح”(20).
ومع ما تقدّم يبقى من يقول بأن في ذلك كله فرضٌ لهيمنة المجتهد على الفكر الديني ومنع غيره منه، فيقال: إذا أريد من “الهيمنة الفكرية هو رجوع الجاهل إلى العالم، والمتعلم إلى المعلم، وغيرِ ذي الاختصاص إلى ذي الاختصاص فإن ذلك هو مسلك العُقلاَء جميعاً وتقوم عليه حركة العلم، ولا غنى لاستمرار الحياة العقلية في نموّها وتقدّمها عنه، وهو محل موافقة العقل والدين. وكون الرأي يمكن أن يطرح من أكثر من فرد، ومن أكثر من جهة، وأن الباب مفتوح لطرح الآراء في المسائل، ولا يكون إبداء الرأي حكراً على أفراد معيّنين صحيح إلى حدّ، وذلك أن يكون طرح الرأي في أي مجال من أهل الخبرة والاختصاص في ذلك المجال. وليس صحيحاً أن تُعطي المجتمعات على نفسها أن تُصغي للرأي من غير أهله، ولا من الحق، ولا الحكمة، ولا النافع أن تأخذ بهذا وتتقيد به. وهل يقولُ بأن حرية الرأي تساوي النظر إلى رأي المختصيِن وأهل الخبرة والبصيرة والتجربة والأمانة والتقوى، وإلى رأي غيرهم على حد واحد وبمستوى واحد إلا جاهل أو مغرض سيّء القصد يريد أن يُضِّل ويصطاد الغافلين؟! وإذا كان الرجوع في الرأي إلى أهل الخبرة والاختصاص والأمانة هيمنة فكرية، وصنمية مرفوضة فبم يَصف القائل بهذا القول محاولته أن يكون المأخوذُ به رأيه وهو على المستوى الأقل شأناً ممن يَرى أن تقديم رأيهم صنمية لا بد أن تلغى، وهيمنة فكرية لا بد أن تحارب؟!”(21).
* الهوامش:
(1) سورة المائدة: 67.
(2) سورة الحجر: 9.
(3) خطبة الجمعة (15) بتاريخ 21 ربيع الثاني1422هـ الموافق13/7/2001م.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق.
(8) المصدر السابق.
(9) خطبة الجمعة (35) بتاريخ 14 رمضان 1422هـ الموافق 30-11-2001 م.
(10) المصدر السابق.
(11) المصدر السابق.
(12) المصدر السابق.
(13) المصدر السابق.
(14) المصدر السابق.
(15) المصدر السابق.
(16) خطبة الجمعة (55) 6 صفر 1423هـ 19-4-2002م.
(17) خطبة الجمعة (35) 14رمضان 1422هـ 30-11-2001م.
(18) من كلام الشيخ بتصرف.
(19) المصدر السابق.
(20) خطبة الجمعة (55) 6 صفر 1423هـ 19-4-2002م.
(21) المصدر السابق.