شهر رجب محطّة من محطّات التعبئة الروحيَّة
شهر رجب محطَّة من محطَّات التعبئة الروحيَّة
كثيرًا ما تشكِّل ضغوطات الحياة الماديَّة أسبابًا لاستنفار الطاقة الروحيَّة التي في داخل الإنسان، ممَّا يفرض الحاجة إلى تعبئةٍ دائمةٍ ومستمرّة، ونفاذ الطاقة الروحيَّة يمثِّل خطرًا كبيرًا على الإنسان المؤمن، فيكسل عن الطاعات والعبادات، ويضمر لديه الإحساس بقيمة الإيمان، ويضمر عنده الخوف من الله تعالى، ويصبح غرضًا سهلًا للشَّيطان، ويسقط في منزلقات المعاصي والذُّنوب، هذه بعض نتائج الضُّمور الرُّوحي، ولست في صدد الحديث عن نتائج أخرى مرعبة تتمثَّل في ما يتعرَّض له الإنسان في لحظة خروج الروح من شدائد، وما يلاقيه في البرزخ من أهوال، وما ينتظره في القيامة من العظائم التي تذهل الألباب..
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾. [1]
فكم هي الحاجة كبيرةٌ وكبيرة أن نتعبَّأ بالطاقة الرُّوحيّة لننشط في الطاعات، ونستشعر لذَّة الإيمان، ويقوى عندنا الخوف من الله، ونحصِّن أنفسنا ضدَّ الشَّيطان، ومزالق الأهوال والشَّهوات، ثمَّ إنَّ النمو الروحيّ زادٌ كبيرٌ للإنسان، في لحظات الموت، وفي البرزخ، وفي يوم المعاد…
فالحذر الحذر من الغفلة، وإضاعة الفرص، خاصَّةً في موسم الطاعة، كما هي هذه الأشهر رجب وشعبان وشهر رمضان.
وبقدر ما نتوفَّر على الاستفادة من العطاءات الرُّوحيّة في شهري رجب وشعبان، نكون قد تهيَّئنا تهيّؤًا حقيقيًّا لاستقبال شهر الله العظيم، فالجدّ الجدّ استعدادًا للقاء شهر الصيام، لمن كُتب له أن يكون من ضيوف الله في شهر الضيافة الربَّانية، فشمِّروا الساعد لاسترفاد المزيد المزيد من الرَّوحانيّة في شهر رجب الأصبّ الذي تُصبُّ فيه الرَّحمة الإلهيَّة صبًّا…
وشهر رجب من الأشهر الحُرُم، والتي قال الله تعالى فيها:
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾[2]
وهذه الأربعة (ذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم ورجب) وسمِّيت الأشهر الحُرُم لأنّ أهل الجاهليَّة كانوا يحرِّمون فيها القتال تعظيمًا لها، فلمَّا جاء الإسلام لم يزدها إلّا حرمةً وتعظيمًا، فنسأله تعالى أن يجعل شهرنا هذا شهر أمنٍ وأمانٍ على هذا الوطن وهذا الشَّعب الذي لا يزال يعيش أوضاعًا أمنيَّةً ضاغطةً ومقلقة…
أعود للقول بأنَّ شهر رجبٍ محطَّةٌ مهمَّةٌ من محطَّات التعبئة الرُّوحية، ولكي نمارس شحنًا روحيًّا في هذا الشَّهر العظيم الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«رجب شهري، وشعبان شهر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وشهر رمضان شهر الله عزَّ وجلَّ».[3]
فعلينا بالجدِّ والاجتهاد في القيام ببعض الأعمال المندوبة إضافةً إلى المحافظة على أداء الفرائض اليوميَّة الواجبة…
مِن هذه الأعمال المندوبة والتي تمثِّل روافدَ مهمَّةً للشَّحن الرُّوحي:
(1) الصِّيام:
• ففي الحديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله كما ذكر الشيخ الكفعمي في المصباح: «مَنْ صام ثلاثة أيامٍ من رجب كتب الله له بكلِّ يومٍ صيامَ سنةٍ، ومَنْ صام سبعة أيامٍ من رجب أغلقت عنه سبعة أبواب النَّار، ومَنْ صام ثمانية أيامٍ مِن رجب فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانية، ومَنْ صام خمسة عشر يومًا حاسبه الله حسابًا يسيرًا، ومَنْ صام رجبَ كلّه كتب الله له رضوانه ومَنْ كتب الله له رضوانه لم يعذِّبه».[4]
• وروى الصَّدوق عن علي بن سالم عن أبيه قال: دخلت على الصَّادق عليه السَّلام في رجب وقد بقيت منه أيام فلمَّا نظر إليَّ قال لي:
«يا سالم هل صمت في هذا الشهر شيئًا؟ قلت: لا والله يا ابن رسول الله.
فقال لي: فقد فاتك مِن الثواب ما لا يعلم مبلغه إلَّا الله عزَّ وجلَّ، إنَّ هذا شهر فضَّله الله وعظَّم حرمته، وأوجب للصَّائمين فيه كرامته…
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فإن صمت ممَّا بقي منه شيئًا هل أنال فوزًا ببعض ثواب الصَّائمين فيه؟
فقال [عليه السَّلام] : يا سالم مَنْ صام يومًا مِن آخر هذا الشهر كان ذلك أمانًا مِنْ شدَّة سكراتِ الموتِ وأمانًا مِن هول المطّلع وعذاب القبر، ومَنْ صام يومين مِن آخر هذا الشهر كان له بذلك جوازًا على الصِّراط، ومَنْ صام ثلاثة أيامٍ مِن آخر هذا الشهر أمِنَ يوم الفزع الأكبر مِن أهواله وشدائده وأُعطي براءةً مِن النَّار».[5]
• وفي بعض الأحاديث أنّه مَنْ لم يقدر على الصَّوم يُسّبِح في كلِّ يومٍ مائة مرَّةٍ بهذا التسبيح لينال أجر الصِّيام فيه:
«سبحان الإله الجليل، سبحان مَنْ لا ينبغي التسبيح إلَّا له، سبحان الأعزِّ الأكرم، سبحان مَنْ لبس العِزَّ وهو له أهل».[6]
(2) الاستغفار:
الإكثار من الاستغفار في هذا الشَّهر له ثوابٌ عظيم، كما أكَّدت ذلك الأحاديث والرِّوايات…
والاستغفار على أنحاء:
أ- الاستغفار المطلق بلا تحديد الزَّمان والمكان والعدد، فبقدر ما يلهج لسان العبد بقول: (أستغفر الله ربِّي وأتوب إليه) أو (أستغفر الله ربّي) أو (أستغفر الله) فقط، في أيِّ حالٍ فهو مِنَ الذَّاكرين، الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ…﴾.[7]
فأنواع الذِّكر كثير، من أهمِّها (الاستغفار) و(التسبيحات) و(الصلاة على محمدٍ وآل محمد [صلّى الله عليه وآله]) وغير ذلك من أنواع ذكر الله تعالى.
وممَّا يؤكِّد الاستغفار المطلق:
• قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾.[8]
• وقوله صلَّى الله عليه وآله: «خير الدًّعاء الاستغفار».[9]
• وقوله صلّى الله عليه وآله: «خير العبادة الاستغفار».[10]
• وقوله صلّى الله عليه وآله: «أكثروا مِنَ الاستغفار». [11]
ب- الاستغفار عند المصيبة:
• كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ﴾.[12]
• وقوله صلّى الله عليه وآله: «لكلّ داءٍ دواء، ودواء الذُّنوب الاستغفار».[13]
ج- الاستغفار بالأسحار:
• وقوله تعالى: ﴿وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾.[14]
• وقوله تعالى: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.[15]
• وقوله صلّى الله عليه وآله: «ثلاثة معصومون من إبليس وجنوده: الذَّاكرون الله، والباكون من خشية الله، والمستغفرون بالأسحار».[16]
وقول أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أراد أن يصيب أهل الأرض بعذابٍ قال: لولا الذين يتحابّون بجلالي، ويعمرون مساجدي، ويستغفرون بالأسحار لأنزلت عذابي».[17]
د- الاستغفار في شهر رجب في الغذاة والعشي:
• في الحديث: «من استغفر الله في رجب وسأله التوبة سبعين مرّةً بالغداة وسبعين مرة بالعشي يقول: (أستغفر الله وأتوب إليه)، فإذا بلغ تمام سبعين مرة رفع يديه وقال: (اللهمّ اغفر لي وتُب عليّ)، فإن مات في رجب مات مرضيًّا عنه، ولا تمسّه النّار ببركة رجب».[18]
(3) الصَّلوات المندوبة:
تشكِّل الصَّلوات المندوبة رافدًا مهمًّا من روافد الشَّحن الرُّوحي في هذا الشهر العظيم، وهذا الصَّلوات على نحوين:
أ- صلوات مندوبة مطلقة لا تخصُّ هذا الشهر، ومنها صلاة الليل، وصلاة جعفر، وصلاة الوصيّة، وصلوات أخرى…
ب- صلوات مندوبة خاصّة بهذا الشهر، وهي كثيرة مذكورة في كتب الأدعية كمفاتيح الجنان…
• في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إنَّ من صلَّى في ليلةٍ من ليالي رجب عشر ركعات يقرأ في كلِّ ركعةٍ الحمد و﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ مرة، و(التوحيد) ثلاث مرات غفر الله له ما اقترفه من الإثم».
(4) وهناك أعمال خاصّة بكلِّ ليلةٍ من ليالي رجب، وهي مدوَّنة في كتب الأدعية…
أيّها الأحبَّة:
لا تفوتنَّكم فرصة المتاجرة مع الله في هذا الشهر العظيم بالاستزادة من الصَّلاة، والدعاء، وتلاوة القرآن، والصدقات، وأعمال البر، ومختلف أنواع الطاعات والقربات، فهنيئًا لمن استثمر وقته فيما يرضي الله تعالى ويقرِّبه إليه زلفى…
العلاّمة السيد عبدالله الغريفي
حديث الجمعة252
16 يونيو، 2011
[1] (الحج/ 1-2)
[2] (التوبة/ 36)
[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة 10/ 480، كتاب الصوم، باب استحباب صوم رجب، ح16، طبعة آل البيت
[4] الحر العاملي، وسائل الشيعة 10/ 481، كتاب الصوم، باب استحباب صوم رجب، ح18، طبعة آل البيت
[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة 10/ 475، كتاب الصوم، باب استحباب صوم رجب، ح8، طبعة آل البيت
[6] الحر العاملي، وسائل الشيعة 10/ 484، كتاب الصوم، باب استحباب الصدقة والتسبيح في كل يوم من رجب، ح1، طبعة آل البيت
[7] (آل عمران/191)
[8] (نوح/ 10)
[9] الكليني: الكافي 2/ 504، كتاب الدعاء، باب الاستغفار، ح1، طبعة دار الكتب الإسلامية
[10] الكليني: الكافي 2/ 517، كتاب الدعاء، باب من قال لا إله إلّا الله، ح1، طبعة دار الكتب الإسلامية
[11] الميرزا النوري، مستدرك الوسائل 5/ 319، أبواب الذكر، ب21، ح13، طبعة آل البيت
[12] (آل عمران/ 135)
[13] الكليني: الكافي 2/ 439، كتاب الإيمان والكفر، باب الاستغفار من الذنب، ح8، طبعة دار الكتب الإسلامية
[14] (آل عمران/17)
[15] (الذّاريات/ 18)
[16] الميرزا النوري، مستدرك الوسائل 5/ 319، أبواب جهاد النفس، ب93، ح5، طبعة آل البيت
[17] الحر العاملي، وسائل الشيعة 5/ 204، كتاب الصّلاة، باب استحباب بناء المساجد، ح5، طبعة آل البيت
[18] الحر العاملي، وسائل الشيعة 10/ 485، كتاب الصوم، باب استحباب الصدقة والتسبيح في كل يوم من رجب، ح5، طبعة آل البيت