دور الدعاء في حياة الإنسان جـ1
دور الدعاء في حياة الإنسان جـ1
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾
صدق الله العلي العظيم
الآية الشريفة اشتملت على فقرتين: فقرة تتحدث عن القرب، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، والفقرة الأخرى تتحدث عن الدعاء الحقيقي.
الفقرة الأولى: القرب الإلهي.
أما الفقرة الأولى – وهي الحديث عن القرب – فما هو المراد من قربه تعالى من عبده؟ هل المراد بالقرب القرب المكاني، أم المراد بالقرب القرب الزماني، أم المراد بالقرب القرب الواقعي، الذي هو أعم من الزمان والمكان؟ المقصود بالقرب هنا علاقة الملكية، أي أن الملكية على قسمين: ملكية اعتبارية، وملكية حقيقية. ملكية الإنسان لأمواله، لبيته، هذه ملكية اعتبارية، أي: ملكية اخترعها القانون وأمضاها، أما ملكية الله تبارك وتعالى مخلوقاته فهي ملكية الإيجاد والإعدام.
هذه الملكية يعبّر عنها بالملكية الحقيقية، الملكية الحقيقية – وهي ملكية الإيجاد والإعدام – عبرت عنها الآية بالقرب: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ لأنني المالك وهم المملوكون، والمملوك قريبٌ من مالكه، المملوك بيد مالكه، يتصرف فيه إيجادًا وإعدامًا، كما في آية أخرى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، ﴿أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾، قرب المالك الحقيقي من مملوكه أقوى قرب، وأعلى مراتب القرب، فهو قرب التصرف، وقرب الإيجاد، وقرب الإعدام.
بما أن عبادي مملوكون لي، فأنا قريب منهم، أقرب منهم إلى أنفسهم، ﴿أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ بمعنى أن الله أقرب إلى قلب العبد من العبد نفسه، أي أن سيطرة الله وهيمنة الله على قلب الإنسان أعظم من همينة الإنسان نفسه على قلبه، ولذلك ورد في الأحاديث: ”عرفت الله بنقض العزائم“، أي: عرفت الله بمعرفتي بقلبي، عرفت أن قلبي يتقلب ويتغير بدون اختيار مني، وبدون إرادة مني، وهذا التغير يعني أن لله هيمنة وسيطرة على قلبي أقوى من سيطرتي على قلبي.
هذه الملكية – وهي ملكية القرب – بدأت بها الآية المباركة، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أتصرف تصرف المالك في مملوكه، فأنا أولى بأن يدعوني، وأولى بأن يتوجهوا لي؛ لأنني المالك الحقيقي، لأنني المتصرف الحقيقي، فالأولى والأجدر بعبادي أن يتوجهوا لي في مقام الدعاء، لأنني القادر على التغيير، والقادر على التبديل، والقادر على قضاء الحاجات وتنفيس الكربات، باعتبار أنني المالك الحقيقي لهؤلاء العباد.
الفقرة الثانية: الدعاء الحقيقي.
قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، ربما يتساءل إنسان: لماذا هذا القيد؟ لماذا لم تقل الآية المباركة: أجيب دعوة الداعي وتسكت؟ لماذا أضافت قيدًا آخر: إذا دعان، لا أنني أجيب دعوة الداعي مطلقًا، فما هو المقصود بهذا القيد؟ هذا القيد إشارة إلى أمرين:
الأمر الأول: أن المطلوب الدعاء الحقيقي.
الدعاء على قسمين: دعاء صوري ودعاء حقيقي. كثير منا يدعو الله، كثير منا يتوجه إلى الله، ولكنه لا يرى أثرًا لهذا الدعاء، ولا يرى استجابة لهذا الدعاء، بينما الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، إذن ما هو الشيء المفقود؟ ما هو العنصر المفقود؟ العنصر المفقود هو الدعاء الحقيقي، أنا أجيب دعوة الداعي لكن إذا صدر منه دعاء حقيقي، لا أنني أجيب دعوة الداعي ولو صدر منه دعاء صوري ودعاء شكلي ودعاء لفظي، الذي أجيبه والذي أقبل عليه وأحبه هو الدعاء الحقيقي، فما هو الدعاء الحقيقي؟
الدعاء الحقيقي هو الانقطاع إلى الله تبارك وتعالى والخلوص له، هناك ظاهرة متفشية بين المجتمع البشري، حتى المتدينين منهم، هذه الظاهرة هي الاعتقاد بالسببية المادية، التاجر يفتتح عمله بالاتكال على تجارته فقط، يظن أن مصدر رزقه فقط تجارته، المريض يعتقد أن مصدر شفائه شرب الأدوية وتناولها، طالب العلم يعتقد أن مصدر سموه وعلوه طلبه للعلم فقط، هذا الاعتقاد بالسببية المادية، أي أن المسببات – كالشفاء والعلم والرزق وسائر هذه الأمور والقضايا – فقط تنحصر بالحصول والتحقق من الأسباب المادية، كالتجارة، كشرب الدواء، كالسعي لطلب العلم، وأمثال ذلك من الأسباب.
الاعتقاد بالسببية المادية يتنافى مع الدعاء الحقيقي، الاعتقاد بالسببية المادية عزل لله، عزل للمالك الحقيقي عن مملوكه، عزل للمتصرف الحقيقي عما هو تحت سيطرته وسلطنته، إذن الدعاء الحقيقي هو عبارة عن الانقطاع إليه، والخلوص إليه، بمعنى أن يعتقد الإنسان أن لا مسبب إلا هو، تمام الأسباب بيده، سببية الدواء للشفاء بيده تبارك وتعالى، سببية التجارة للحصول على الرزق بيده تبارك وتعالى، سببية الدراسة والتعب وطلب العلم لكمال النفس وسموها بيده تبارك وتعالى، الإنسان لا يمكنه الانقطاع عن الأسباب المادية؛ لأن الله هو الذي ربط المسببات بهذه الأسباب المادية، لا يمكن للمريض أن يشفى من دون أن يشرب الدواء؛ لأن الله ربط الشفاء بشرب الدواء، ولكن أن يعتقد الإنسان أن السببية في الدواء، وأن مصدر الشفاء في الدواء، هذا عزل لله تبارك وتعالى عن تأثيره في هذا الوجود وفي هذا الكون.
إذن، الانقطاع إليه والخلوص له يعني أن يعتقد الإنسان أن المؤثر الحقيقي في تمام الأمور هو الله تبارك وتعالى. لذلك، ينبغي الانقطاع إليه، والخلوص له، بأن يدعوه دعاء صادقًا بانيًا في قلبه أن لا مؤثر إلا هو، أن لا حاجة إلا عنده، أن لا مهرب منه إلا إليه، ولا ملجأ إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا به، إذا اعتقد الإنسان أن التأثير في كل شيء من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة في هذا الوجود بيده وتحت سيطرته وأن لا سببية إلا بتسبيبه، فحينئذ يحصل على العنصر الأول للدعاء الحقيقي، ألا وهو الانقطاع إليه تبارك وتعالى، والخلوص له.
الأمر الثاني: أن الدعاء الحقيقي يتقوم بدعائه تبارك وتعالى.
﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ لا إذا دعا غيري، أنا لا أجيب دعوة الداعي ولو دعا غيري، فكما يعتبر في الدعاء الحقيقي أن يكون انقطاعًا وخلوصًا، يعتبر في الدعاء الحقيقي أن يكون لي لا إلى غيري، ومعنى ذلك أن الإنسان في دعائه وفي تضرعه إلى الله يدعو لأجل الله أم لأجل نفسه؟ نحن مع الأسف ندعو لأجل أنفسنا، المحرك لنا نحو الدعاء أنفسنا، مصالحنا الذاتية، قضايانا الشخصية، بمعنى أن غريزة حب الذات – وهي أعظم غريزة تسيطر على الإنسان – حبي لذاتي يدفعني للدعاء من أجل قضاء حوائجي ومن أجل رزقي ومن أجل شفاء مرضي، فالدعاء لأجل ذاتي، لأجل مصلحتي، لا لأجله تبارك وتعالى، هذا الدعاء المتقوقع في الذات، المتقوقع في مصالح الذات، ليس دعاء له تبارك وتعالى، وإنما هو دعاء للذات، كيف يكون الدعاء دعاء له تبارك وتعالى وليس دعاء متقوقعًا في مصالح الذات الشخصية؟
عندما يكون الإنسان على تواصل مع الدعاء، ورد في الحديث الشريف: ”عبدي، تعرّف علي في الرخاء أعرفك في الشدة“، إذا كان الإنسان في الرخاء إنسانًا سليم البدن، إنسانًا مكفي الرزق، رزقه حاصل، سلامة بدنه حاصلة، حياته منعمة، لا يدعو ربه، وإذا دعاه دعاه دعاء شكليًا صوريًا لفظيًا، هذا شخص انقطع عن ربه وقت الرخاء، ولما جاء وقت الشدة أصابه المرض، أصابه الفقر، أصابه الخوف، اتجه إلى ربه، الاتجاه إلى الله في وقت دون وقت وفي حال دون حال ليس دعاء له بل هو دعاء للذات، هذا ليس دعاء حقيقيًا، لا يقبل عليه الله ولا يحبه؛ لأن دعاء للذات وليس دعاء لله.
والمنبه على أنه دعاء للذات أنه لم يأت إلا في وقت الشدة، ولم يأت في وقت الرخاء، ولم يأت في وقت الدعة، ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾، هؤلاء لا يتوجهون إليه إلا في وقت الشدة، وهذا يعني أن دعاءهم لذاتهم وليس له تبارك وتعالى، فالدعاء الحقيقي ما كان تجردًا من الذات، وتوجهًا إليه تبارك وتعالى، لذلك الدعاء الحقيقي ما كان دعاء في جميع الأحوال، وفي جميع الأوضاع، بنفس واحد، بروح واحدة، بتضرع متواصل، لا أنه دعاء بحسب الأوقات وبحسب الحالات، وإلا لم يقع دعاء حقيقي له تبارك وتعالى.
لذلك هنا هذه اللفظة تنص وتؤكد على أهمية الدعاء الحقيقي، أهمية الدعاء والتوجه له تبارك وتعالى، ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ لماذا؟ الدعاء له تبارك وتعالى بنفس واحد وبتضرع واحد يحقق أثرين: الأثر الأول: التواصل مع الله تبارك وتعالى، والأثر الثاني: أخذ الفيض من منبعه ومن مصدره الحقيقي.
الأثر الأول: الإنسان يحتاج إلى التواصل مع الله.
أفضل شيء يحبه الله هو حالة التواصل معه، ولذلك ورد في الحديث: ”الدعاء مخ العبادة“، ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾، حالة التواصل مع الله تحقق لقاء الحبيب بحبيبه، لقاء المحب بمحبوبه، هذا اللقاء أمر يحبه الله في ذاته، حتى لو لم تكن أنت محتاجًا، حتى لو كنت ثريًا صحيح البدن متنعمًا في حياتك، لا تعيش أية مشكلة، لكن لقاء المحب بمحبوبه محبوبٌ لدى الله، هذا التواصل الروحي يريده الله، هذا التواصل الروحي يملأ النفس بهجة، يملأ النفس عنفوانًا، يملؤك نشاطًا وحيوية وإقبالًا على الحياة، إذا افتتحت يومك بتواصل روحي، إذا ختمت ليلك بتواصل روحي.
هذا التواصل الروحي كان يركز عليه الإمام أمير المؤمنين عندما يقول: ”ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“، الجنة متع مادية، الجنة لذائذ مادية، أما الصلاة فهي لذة روحية، الصلاة لقاء الحبيب مع محبوبه، الصلاة معراج المؤمن، قربان كل تقي، فلذلك الدعاء ألذ من الجنة وما فيها؛ لأنه يحقق التواصل بين المحب ومحبوبه.
الأثر الثاني: أخذ الفيض من منبعه.
هذا الكون مليء بالفيض، النار مصدر لفيض الحرارة، الشمس مصدر لفيض الدفء، الأرض مصدر للنبات والرزق، الحيوان مصدر لغذاء الإنسان، كل هذه المصادر فيضها من قبل الله، مصدر الفيض الحقيقي هو الله تبارك وتعالى، لكي أكون على صلة بمصدر الفيض الحقيقي علي أن أكون متواصلًا مع الله، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، بدل أن أنوّع اتجاهاتي، بدل أن أشتت أموري، ليكن دائمًا أحوالي مستندة إليه تبارك وتعالى، لأكن دائمًا مستمدًا من مصدر المدد، ومعولًا على مصدر العطاء، دائمًا آخذ الفيض والعطاء والمدد منه تبارك وتعالى، ”ما اعتصم بي عبدٌ من عبادي ثم كادت السماوات أن يتفطرن أو أن الأرض تسيخ به إلا كان محتميًا بحماي“.
إذن الاعتصام به وأخذ الفيض من مدده يجعل الإنسان في عصمة، ويجعل الإنسان في نعمة، ويجعله مصداقًا للآية المباركة: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ لأنهم دائمًا في تواصل مع الدعاء، ودائمًا يأخذون الفيض من منبعه ومصدره الحقيقي. جعلنا الله وإياكم من الداعين المتقربين إلى الله تبارك وتعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
العلامة السيد منير الخبّاز