دور الدعاء في حياة الإنسان جـ2
دور الدعاء في حياة الإنسان جـ2
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
صدق الله العلي العظيم
هناك سؤالٌ يتبادر للإنسان، وهو أنَّ الله تبارك وتعالى جعل الهدف من وجود الإنسان هو العبادة، فهل هذا الهدف ينسجم مع ذات الإنسان، ويلبّي حاجات أساسية ذاتية لدى الإنسان، أم لا؟ مقتضى الحكمة في كل عاقل أن يكون هدفه منسجمًا مع ذاته، ومنسجمًا مع حاجاته وقدراته، فلو كان الهدف أجنبيًا عن حاجات الإنسان وعن قدرات الإنسان، لم يكن هذا الهدف محققًا لأثره، ومحققًا لمفعوله.
مثلًا: هناك إنسان عنده ميول لعلم الطب، وعنده قدرة على الولوج في علم الطب، هذا الإنسان لو جعل هدفه علم الرياضيات أو علم الهندسة، لم يكن هذا الهدف محققًا لأثره، ولم يكن هذا الهدف محققًا لبناء ذاته؛ لأنه هدفٌ لا ينسجم مع غريزته وميوله، ولا ينسجم مع قدراته، ولا يلبي حاجاته الذاتية. وضع الإنسان أو العاقل نفسه في هدف لا يلتقي مع نفسه خلاف الحكمة، نقض للغرض؛ لأنه وضع نفسه في هدفٍ لا ينسجم مع ذاته.
الله تبارك وتعالى حكيم، ومقتضى حكمته أن يجعل الهدف من وجود الإنسان هدفًا منسجمًا مع ذات الإنسان، وملبيًا لحاجات الإنسان، الله تبارك وتعالى جعل الهدف من وجود الإنسان هو العبادة، إذا لم تكن العبادة حاجة ذاتية في الإنسان، إذا لم تكن العبادة منسجمةً وملائمةً مع ذات الإنسان، وأن الإنسان يحتاج إليها بطبعه وبفطرته وبجبلته، فجعل هذا الهدف للإنسان جعلٌ لأمر غير مناسب لصاحب الهدف، وهو نقضٌ للغرض من وجود الإنسان، ونقض الغرض قبيحٌ، والقبيح لا يصدر من الحكيم المطلق «تبارك وتعالى».
إذن بالنتيجة: العبادة هدف يطمح إليه الإنسان في ذاته، ويحتاج إليه الإنسان في ذاته، ولو لم يجعله الله له هدفًا فإنه محتاج حاجة ذاتية لهذا الهدف، فهل صحيح أن العبادة تعيش حاجاتنا الذاتية؟ هل أننا نحتاج إلى العبادة حاجة ذاتية، أم لا؟ الدعاء مخ العبادة، الدعاء أجلى مصاديق وصور العبادة، فهل الإنسان محتاج إلى الدعاء، أم أن علاقة الإنسان بالدعاء مجرد علاقة وظيفة، وعلاقة طقوس يمارسها، لا أن الدعاء يلبي ويغذي حاجة داخلية أساسية لدى الإنسان؟ الدعاء كذلك، الدعاء نداء فطري وجداني داخلي في الإنسان، حتى لو لم يجعله الله هدفًا للإنسان، الدعاء يلبي عدة حاجات:
الحاجة الأولى: حاجة الإنسان إلى البوح والتنفيس.
كل إنسان يحتاج إلى أن يتكلم عن ذاته، كل إنسان تصيبه ظروف قاسية، تصيبه أحزان، تصيبه شجون، تحدق به أحيانًا هموم الحياة غمومها، إذا تراكمت الهموم والغموم الظروف والضغوط النفسية على الإنسان فإن هذا الإنسان يختنق ويموت إذا لم يتكلم، يحتاج الإنسان كي يرفع من تأثير هذه الضغوط النفسية، كي يرفع من قسوة هذه الهموم المتراكمة على قلبه، يحتاج إلى أن يبوح عن ذاته، يحتاج إلى أن ينفس عن نفسه، يحتاج إلى أن يجلس مع شخص يحبه، يستمع إليه، يقبل عليه، حتى ينفس له عن شكاواه، حتى ينفس له عن همومه وغمومه، التنفيس حاجة ذاتية في الإنسان، الإنسان الذي لا يعبر عن همومه وغمومه إنسان تخنقه الحياة، يصاب بعقد نفسية، يصبح إنسانًا متأزمًا لا يمكنه أن يواصل مسيرة الحياة بإقبال وإبداع وبناء. إذن، الإنسان يحتاج حاجة ذاتية للتنفيس، والتنفيس هو الدعاء.
الإنسان عندما يقف أمام ربه، ويعرض شكاواه وهمومه وغمومه، وما قست عليه ظروف الحياة، وما أحدقت به من ذنوب ومعاص وأخطاء، فإنه بذلك يعالج حاجة وعقدة داخلية في شخصيته، ويبعث الراحة والبهجة في نفسه، إثر الدعاء، إثر مناجاة حبيبه، ألا وهو الله، إثر مناجاة الموجود الذي لا يفضح أسراره، والموجود الذي يستر عيوبه، والموجود الذي يستقبل شكاواه، والموجود الذي يقبل عليه، إذ قال «تبارك وتعالى»: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.
الحاجة الثانية: حاجة الإنسان إلى الأمل.
كل شخص إذا تراكمت به الذنوب والمعاصي يصيبه اليأس، يقول: أنا لا يمكن أن أتغير، أنا إنسان مسرف في الذنوب والمعاصي، أنا إنسان شقي، خلقت للشقاء، لو لم أكن شقيًا في ذاتي، لو لم أخلق للشفاء، لما أصررت على الذنوب والمعاصي، لما قطعت العشرين أو الثلاثين سنة في الذنوب والمعاصي، الإنسان إذا أسرف في الأخطاء أو الجرائم يصيبه اليأس بأن شخصيته شخصية شقية لا تتغير ولا تتبدل، وإذا أصابه اليأس تحول إلى إنسان انتقامي، تحول إلى إنسان يعيش نقمة وحقدًا على المجتمع، لأنه يرى نفسه أقل من غيره، غيره يغير حياته، وهو إنسان لا تتغير حياته.
الطريق الوحيد لعلاج هذه العقدة النفسية، وهي عقدة الإحساس بالشقاء، والإحساس بالخيبة والإحباط، العلاج هو الدعاء، الدعاء هو الذي يغيّر الإنسان، الله تبارك وتعالى يقول: أقبل عليَّ، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وقد ورد في الحديث: ”إن رحمة الله لتنشر يوم القيامة حتى يطمع إبليس في رحمته“ وهو المضل للخلق جميعًا. إذن، الدعاء يجدد الأمل، الدعاء يزرع الأمل في قلب الإنسان، الدعاء يقتلع الخيبة والإحساس بالإحباط في حياة الإنسان، ويجدد نشاط الإنسان، ويجعل من الإنسان إنسانًا حيويًا نشيطًا مقبلًا على الحياة برغبة وبناء وإبداع.
الحاجة الثالثة: حاجة الإنسان لمحاسبة النفس.
لا يمكن للإنسان أن يتطور ما لم يحاسب نفسه، الطريق لكمال الذات نقد الذات، نقد الذات هو الطريق لكمالها، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، تغير الحياة عبر تغيير النفس، وتغيير النفس عبارة محاسبة النفس، إذن مبدأ محاسبة النفس مبدأ يحتاج إليه الإنسان حاجة أساسية؛ حتى يمكنه تغيير مساره.
والدعاء هو الطريق الوحيد لمحاسبة النفس، الإنسان عندما يخلو بنفسه ليلًا، عندما يختار الظلام حتى يخلو بنفسه، ويستعرض شريطه الأسود، ويستعرض أيامه، ويستعرض لياليه، ويستعرض صحيفة أعماله، ويبدأ يضع النقاط على الحروف، ويبدأ يضع النقاط على كل ذنب وخطأ ومعصية، هذه المحاسبة هي طريق الكمال، هي طريق التطوير وتغيير الذات، ولذلك ورد في الحديث الشريف: ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا“، وورد عن الإمام الكاظم : ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم“، لماذا؟ لأجل أن يغير حياته، لأجل أن يطور حياته، ”فإن عمل حسنة استزاد الله منها، وإن عمل سيئة استغفر الله وتاب إليه“.
مراجعة الأعمال، محاسبة النفس، طريق للتطوير، كما تحاسب نفسك في التجارة: هل ربحت أم خسرت، كما تحاسب نفسك في الوظيفة: ما هي أخطاؤك، حتى تكون وظيفتك وظيفة متقنة ناجحة، فحاسب نفسك على الذنوب والمعاصي، حتى تتخلص من هذه الصحائف السوداء، وتصبح صحيفة مشرقة بيضاء لا سواد فيها ولا ظلمة. إذن، محاسبة النفس حاجة يحتاج إليها الإنسان حاجةً أساسيةً، وطريق تغذيتها وتلبيتها هو الدعاء، ولذلك قال ضرار في وصف الإمام أمير المؤمنين : ”كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلّب كفيه على ما مضى“.
الحاجة الرابعة: الحاجة إلى معرفة النفس.
كيف يمكن للإنسان أن يعرف نفسه؟ الإنسان لا بد أن يتعرف على نفسه، النفس فيها مواطن قوة وفيها مواطن ضعف، فيها جهات تبدع فيها وفيها جهات تخفق فيها، كل نفس لها نقاط قوة ولها نقاط ضعف، لا يمكن للإنسان أن يستثمر حياته حتى يتعرف على نفسه، كيف أصرف نفسي إذا لم أتعرف عليها؟ كيف أسير بها إذا لم أتعرف على مواطن الضعف والقوة فيها؟ معرفة النفس أمر ضروري للإنسان، كل إنسان يحتاج إلى معرفة نفسه حاجة أساسية، حتى إذا عرف نفسه وضعها في المواضع التي تبدع فيها، التي تنشط فيها، التي تبني فيها.
وطريق معرفة النفس هو الدعاء، الناس إذا خلا بنفسه، وبدأ يركز على حياته، وبدأ يسأل: من أين أنا؟ وإلى أين أنا؟ كما ورد في الحديث الشريف: ”رحم الله عبدًا عرف من أين وفي أين وإلى أين“، كيف بدأت حياتي؟ وأنا الآن أين أسير؟ وإلى أين ستنتهي؟ وما هي العاقبة؟ هذه الأعمال التي أمارسها ما هي عاقبتها؟ وما هي نتيجتها؟ عندما يركز الإنسان على مسيرته سيرى نفسه أخفقت في جهات وأبدعت في جهات، إذن هناك نقاط قوة وهناك نقاط ضعف، تمييز نقاط القوة عن الضعف يحتاج إلى جلسات من الدعاء، يحتاج إلى أوقات طويلة من الدعاء، حتى يتعرف الإنسان على نفسه.
الصحيفة السجادية، عندما تقرأ دعاء أبي حمزة، يسير مع النفس في نقاطها المختلفة، يسلط الضوء على كل جنبة من جنبات النفس، على كل هفوة، على كل نزوة، على كل ميول، على كل غريزة للنفس، ليعرف لك هذا الدعاء الشريف وهذه الكلمات العظيمة الصادرة عن فم الإمام زين العابدين ، تعرفك معرفة حقيقية على نفسك، وقد ورد في الحديث عن النبي : ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“، وورد عنه: ”معرفة النفس أنفع المعرفتين“، وقال تبارك وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، معرفة النفس حاجة أساسية يغذيها ويعالجها الدعاء.
الحاجة الخامسة: حاجة الإنسان للحس الاجتماعي.
الإنسان اجتماعي بطبعه، الإنسان يحتاج إلى المجتمع، الإنسان يحتاج إلى أن يشعر بمن حوله، الإنسان يحتاج إلى أن يتواصل مع من حوله، ورد عن النبي : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا“ أي: المتواضعون ”الذين يألفون ويؤلفون“، يألف الآخرين ويألفه الآخرون؛ لأنه يملك حسًا اجتماعيًا.
كل إنسان يحتاج أن يمتلك حسًا اجتماعيًا، حتى يعيش مع المجتمع في مسيرة واحدة، في بناء واحد، والحس الاجتماعي يغذيه الدعاء، أدعية أهل البيت، دعاء مكارم الأخلاق، دعاء أبي حمزة الثمالي، دعاء الافتتاح في شهر رمضان، أدعية تحسسك بأوضاع من حولك، أدعية تغذيك بأنك جزء من المجتمع، ولا يمكن أن تنفصل عن المجتمع، فلا بد أن تعيش هموم المجتمع وقضايا المجتمع.
الإمام زين العابدين يركز في دعائه على القضايا عندما يقول: ”اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظُلِم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدي إليَّ فلم أشكره، ومن ذي حاجة سألني فلم أوفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، اللهم سدّدني لأن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر“، إذن الإمام زين العابدين يعلمنا أن الدعاء انفتاح على المجتمع، الدعاء تربيةٌ للحس الاجتماعي، الدعاء ليس محرابًا ولا مناجاة، بل الدعاء شعور بآلام المجتمع وهموم المجتمع، وتربية على الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية.
الإمام الحسن الزكي كان يقول: ”ما رأيت أعبد من أمي فاطمة، إذا قامت إلى صلاتها لا تنفتل قدماها حتى تتورم من طول الوقوف بين يدي ربها، وما رأيتها دعت لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات، فأقول لها: أماه فاطمة، لم لا تدعين لنفسك؟ فتقول: بني حسن، الجار ثم الدار“، تعلّمنا الزهراء أن الدعاء إحساس بالمجتمع، أن الدعاء مسؤولية اجتماعية، أن الدعاء ليس علاقة مع الله محضة، بل علاقة مع الله تفتح الإنسان على علاقةٍ بالمجتمع.
هذه حاجات أساسية جذرية في داخل الإنسان، يحتاج منها إلى الدعاء، فالدعاء هدفٌ ينسجم مع ذات الإنسان، ومع غريزة الإنسان، ومع الحاجات الأساسية للإنسان، لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾، لولا دعاؤكم لعشتم بدون حاجات أساسية، لولا دعاؤكم لعشتم بدون إنسانية، لولا دعاؤكم لعشتم بدون فطرة؛ لأنكم لا تلبون حاجاتكم الأساسية الإنسانية إلا عن طريق الدعاء.
العلاّمة السيد منير الخبّاز