يوم مبعث رسول الإسلام (ص) التعيين والتحديد
يوم مبعث رسول الإسلام (ص)
التعيين والتحديد
آية الله الشيخ جعفر السبحاني
الاجتهاد: لقد تعرّض يوم مبعث رسول الإسلام “صلی الله عليه وآله وسلم” للاختلاف من حيث التعيين والتحديد فهو مثل یوم ولادته ويوم وفاته صلى الله عليه وآله غير مقطوع به، من وجهة نظر المؤرخين وكُتّاب السيرة النبوية. فلقد اتفق علماء الشيعة على القول بان رسول الله صلى الله عليه وآله بُعث بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب، وأن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسه. بينما اشتهر عند علماء السنة أن رسول الإسلام قد أوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.
ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف “محمد” (صلى الله عليه وآله وسلم) من جانب الله تعالى بهداية الناس، وبُعث بالرسالة.
ولما كانت الشيعة تشایع عترة النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الصادقين، وتعتقد بصحة مايرونه ويقولون به اتباعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم، في حديث الثقلين: «إنهما لن یفترقا » فانهم اتبعوا – في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف القول المأثور – بنقل صحيح – عن عترة النبي المطهرين في هذا المجال.
فقد روي عن أبناء الرسول وعترته الطاهرة أن عظيم هذا البيت وسيّده (أي النبيّ) قد بُعثَ في السابع والعشرين من شهر رجب، وهم في ذلك حجة. ولهذا لايمكن الشك والتردد في صحة هذا القول وثبوته(1).
نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسه بأن آيات القرآن نزلت في شهر رمضان، وحيث إن يوم بعثة النبي صلى الله عليه وآله كان هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي، والقرآن عليه، لهذا يجب القول بان يوم البعثة الشريفة انما كان في نفس الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم: اي شهر رمضان المبارك .
واليك فيما يأتي الآيات التي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان:
1- «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»(2)
۲- «حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ… »(3) وتلك الليلة هي ليلة القدر التي قال عنها سبحانه: « إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ » (4).
ما أجاب به علماء الشيعة:
و لقد أجاب مُحدِّثو الشيعة ومفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا:
الجواب الأول:
إن الآيات المذكورة إنها تدل على أن القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي «ليلة القدر»، ولكنها لا تتعرض لذكر محل نزول هذه الآيات، وأنها أين نزلت؟ وهي بالتالي لاتدل أبدا ومطلقاً على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول الله ؟
فيحتمل أن يكون للقرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول الله تدريجاً. والآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور(5).
وعلى هذا فما المانع من أن تكون بعض آيات القرآن (من سورة العلق) قد نزلت على النبي صلى الله عليه وآله في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ، إلى موضع آخر عبر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.
ويؤيد هذا الرأي قول الله تعالى في سورة الدخان: « إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ » فان هذه الآية – بحكم رجوع الضمير فيها إلى الكتاب – تصرح بأن الكتاب العزيز باجمعه نزل في ليلةٍ مباركةٍ (في شهر رمضان)، ولا بدّ أن يكون هذا النزول غير ذلك النزول الذي تحقق في يوم البعث الشريف، لأن في يوم المبعث لم تنزل سوی آیات معدودة لااكثر.
و خلاصة الكلام هي أن الآيات التي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة (ليلة القدر) لايمكن أن تدل على أن يوم البعث الذي نزلت فيه بضع آيات أيضاً كان في ذلك الشهر نفسه، لأن الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لابعضه قد نزل في ذلك الشهر، في حين لم تنزل في يوم البعث سوی آیات معدودة كما نعلم.
وفي هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعي للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من «اللوح المحفوظ» إلى «البيت المعمور».
وقد روى علماء الشيعة والسنة روايات وأخبارة بهذا المضمون، وبخاصة الأستاذ الأزهري محمد عبدالعظيم الزرقاني الذي أورد روایات عديدة في هذا الصدد في كتابه (6).
والجواب الثاني:
وهو أمتن الأجوبة والردود على هذا القول.
فقد بذل الاستاد الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في كتابه القيم؛ واليك خلاصته:
يقول العلامة الطباطبائي: إن قول الله تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وآله، لأن للقرآن مضافاً إلى وجوده التدريجي، واقعية اطلع الله تعالى نبيه العظيم عليها في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان المبارك (7). وحيث إن النبي الاكرم صلى الله عليه وآله كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لايعجل بقرائته حتى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً اذ يقول تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(8)
وخلاصة هذا الجواب هي: أن للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الذي نزل على الرسول الكريم صلى الله عليه وآله مرة واحدة في شهر رمضان، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبي صلى الله عليه وآله في يوم المبعث، واستمر تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.
الجواب الثالث: التفكيك بين نزول القرآن والبعثة
إن للوحي – كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحی اجمالاً.
مراتب ومراحل، يتمثل أول مراتبه في الرؤيا الصادقة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله.
والمرتبة الأخرى تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الالهيّ من دون وساطة ملك .
و آخر تلك المراتب هو إن يسمع النبي كلام الله من ملك يبصره ويراه، ويتعرف عن طريقه على حقائق العوالم الأخرى.
وحيث أن النفس الإنسانية لا تستطيع في الوهلة الأولى تحمل مراتب (الوحی) جميعها دفعة واحدة بل لابد أن يتحملها تدريجاً، لهذا يجب القول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد سمع يوم المبعث (اليوم السابع والعشرون من شهر رجب) النداء السماوي الذي يخبره بأنه رسول الله، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم أية آية قط، وقد استمر الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.
وخلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث الرسول صلى الله عليه وآله بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتما.
وعلى هذا الأساس ما المانع من أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وآله في شهر رجب، وينزل القرآن الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟
إن هذه الاجابة و إن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية (لأن كثيرة من المؤرخين صرحوا بأن الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه) إلا أن هناك -مع ذلك- روایات ذكرت قصة البعثة بسماع النبي صلی الله عليه واله وسلم للنداء الغيبي، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات ، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول:
في ذلك اليوم سمع رسول الله صلى الله عليه وآله ملكاً يقول له: يا محمد إنك لرسول الله، وجاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء، فقط، ولم تذكر شيئا عن مشاهدة الملك .
وللمزيد من التوضيح، والتوسع يراجع «البحار» في هذا المجال (9).
على هذه الاجابة تختلف عن الإجابة الرابعة التي تقول بأن مبعث النبي صلى الله عليه واله وسلم كان في شهر رجب، وكان نزول القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرية التي استغرقت ثلاثة أعوام.
الهوامش
(1) راجع بحارالأنوار: ج۱۸ ص۱۸۹.
(۲) البقرة: 185.
(3) الدخان: ۳-۱.
(4) القدر: ۳-۱.
(5) للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.
(6)مناهل العرفان في علوم القرآن: ج۱ ص۳۷.
(7) الميزان: ج۲ ص ۱4 – 16
(8) طه: 114.
(9) بحارالأنوار: ج۱۸ ص 184 و 190 و 193 و 253، الكافي: ج2 ص 460، تفسير العياشي ج 1، ص 80، و هذا لجواب لا ينسجم فقط مع ماوراء البخاري من أن بعثة النبي رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه صلي الله عليه وآله وسلم.