حديثٌ حول انتظارِ الفرَج
حديثٌ حول انتظارِ الفرَج
الشيخ محمد صنقور
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
الاستعداد من أهمِّ غايات الغيبة:
أُبارك لكم يوم ميلاد المنقِذِ المُؤمَّل للبشرية والذي مهَّدت لولادته ثم لظهوره المبارك كلُّ الرسالات على امتداد تأريخها الضارب في عمق الزمن من لدن آدم (ع) إلى المبعث النبويِّ الشريف، إلى ما اطلع به أهلُ بيت رسول الله (ص) من دورٍ في حفظ رسالة السماء، إلى أنْ وُلد ثم اقتضت العناية الإلهيَّة أنْ يغيبَ عن الأمَّة بشخصِه غيبتَه الصغرى فيُعيِّن له سفراء يمتدُّ زمنُهم قرابةَ السبعين سنة يكونون ملجأً ومآلاً للأمة، ترجعُ الأمَّةُ إليه من طريقهم، ثم اقتضت العنايةُ الإلهيَّة أنْ يغيبَ غيبتَه الكبرى والتي أكَّدت الرواياتُ المتواترة أنَّها تطولُ وتطول، ثم إذا شاء اللهُ جلَّ وعلا كان ظهورُه بغتة.
وقد نصَّت الرواياتُ الشريفة الواردةُ عن الرسول الكريم (ص) وعن أهلِ بيتِه (ع) أنَّ واحدًا من أهمِّ الأهداف التي من أجلها تغيَّبَ الإمامُ (ع) عن الأمَّة بشخصِه هو أنْ تستعدَّ الأمةُ لظهوره المبارك والذي أُنيطَ به الفتحُ العالميُّ الكبير حيث يعمُّ الهدى كلَّ ربوع الأرض، هذه الغايةُ العظمى التي مهَّدتْ لها الرسالات تحتاجُ إلى رجالٍ يملكون القدرةَ غير الاعتيادية على تحمُّل هذه المسؤوليَّة، فليس كلُّ أحدٍ قادرًا على أنْ يتأهَّل لهذا الدور، وهو أنْ يكون في ركب هذا القائد الإلهيِّ العظيم، لغرض الفتح المبين العالمي، الذي سينشأُ عنه أنْ تُملأ الأرض قسطًا وعدلاً وهدىً وخيرا. إذن فالغرض من الغيبة هي التمهيد والاستعداد.
فلننظر هل نحن واقعًا نستشعر حالة الاستعداد في أنفسنا ونعمل على إعداد أنفسنا للظهور المبارك أو لا؟
الاستعداد للظهور غايةٌ قائمة بذاتها:
قد تطرأ خاطرةٌ في القلب: فما معنى أنْ يستعدَّ كلُّ هذا الخلْقُ وكلُّ هذه الأجيال ثم يموتون فلا يظهرُ الإمامُ الحجَّة (ع)؟
أكَّدت رواياتُ أهل البيت (ع) أنَّ الغرض من الاستعداد لا يختصُّ بالمساهمة الفعليَّة في عمليَّة الفتح العالمي حين الظهور المبارك، هذا هو غرضٌ من أغراض الاستعداد في عصر الغيبة. ولكنَّ الغرض الآخر يُمكنُ أنْ يُعبَّر عنه بأنَّه شخصي، فالإسلامُ إنَّما جاء من أجل أنْ يترتَّب عن الاهتداء بهديه تكاملُ الإنسان، فتكاملُ الإنسان هو الهدف الأساس من المبعث النبويِّ الشريف ومِن رسالة السماء، فأنْ يكون الإنسان كاملاً في مشاعره وروحيَّته، كاملاً في عقيدته، كاملاً في سلوكه فتلك هي غاية الاستعداد للظهور المبارك، فالاستعداد للظهور معناه أن تُهذِّب نفسك، وتسعى للتكامل ويكون ترقُّب الظهور باعثاً لك على تحصيل هذه الغاية المُفضية في المآل للرضوان الإلهي.
انتظار الفرج يعني التقوى والورع عن محارم الله:
لذلك أفاد أهل البيت (ع) أنَّ أفضل الأعمال وأفضل العبادات في عصر الغيبة هو انتظار الفرج، ثم فسَّروا انتظار الفرج بالورع، قد لا يجدُ أحدُنا ربطًا بين الورع وانتظار الفرج، ولكنَّ في ذلك كلَّ الربط، فالإمام الباقر، والإمام الصادق، وكلُّ أئمة أهل البيت (ع) يؤكِّدون على أنَّ المراد من انتظار الفرج هو الورعُ عن محارم الله، ومعنى الورع هو أنْ تردع نفسَك، وأنْ تكفَّها عن ارتكاب المنكرات، وعن ارتكاب الفواحش، وأنْ تكبحها عن ارتكاب كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ ما أمكن. فإذا اجترحتَ من ذنبٍ أو معصيةٍ أو ارتكبت خطيئةً، كان عليك أنْ لا ترتكبها مرَّةً أخرى، بعد أنْ تُؤنِّب نفسك وتؤدِّبها، فبذلك تصلُ إلى مرتبة الورع.
وكذلك أفاد أهلُ البيت (ع) أنَّ انتظار الفرج يعني التقوى، والتي يكون موطنها القلب وتنعكسُ على السلوك، فالتقوى هي الخشية التي تبلغُ مرتبة الحضور الدائم، الخشية من الله عزَّ وجل الحاضرة في النفس بشكلٍ دائم، فإذا بلغ الإنسانُ من التقوى حدَّا تكونُ الخشيةُ حاضرةً في ذاكرته وفي قلبه في كلِّ وقت، فإنَّ ارتكابه للمنكر سوف يكونُ مستبعدًا، وإذا ما أخطأ -لأنَّ الإنسان خطّاء- فإنَّه سرعان ما يثوبُ إلى رُشده، وسرعان ما يرجعُ إلى ربِّه.
فانتظارُ الفرج هو الورعُ وهو التقوى، وانتظارُ الفرج هو الطاعةُ لله عزَّ وجل والسعيُ ما أمكن لإقامة كلِّ فرائض الله التي افترضها عليه، وإنَّ شقَّ وعسر عليه ذلك، وانتظارُ الفرج هو أنْ يوثِّق المؤمنُ علاقته بالله وبوليِّه الأعظم صاحبِ العصر والزمان (ع)، هذا التوثيق للعلاقة الروحيَّة له انعكاساتٌ كبيرة تُساهم في الاستعداد، فتوثيقُ العلاقة تعني أنْ يكونَ الإمام الحجَّةُ (ع) حاضراً في الوجدان، وحاضراً في القلب، بشكلٍ دائم، تراه في مشاعرك بنحو دائم، تعرضُ كلَّ أعمالك عليه، ثم تترقَّى فتعرض كلَّ مشاعرك، ثم تترقَّى فتعرضُ كلَّ خطرات قلبِك عليه، فالإمامُ المهديُّ يسكن في قلبك قبل أنْ يسكنَ في الأرض؛ لذلك تحرصُ على تحرِّي ما يرتضيه وما يُوجب قربك منه، فتكون دائم السؤال هل يرضى بهذا السلوك أو لا؟ ودليلك قلبُك، لذلك ورد في الروايات أنَّ دليل المؤمن على الخير، ودليل المؤمن على الشرِّ هو قلبُه، دليلك على أنَّ هذا يرضاه الإمامُ الحجَّة وهذا لا يرضاه هو قلبك، فإنْ رأيت في قلبك أنه يرضاه مضيت فيه، وإنْ رأيتَ أنَّه لا يرضاه اجتنبته، وإنْ شعرت أنَّ قلبَك غير مستقرٍّ وغير مطمئن أنَّه محلٌّ لرضا الإمام، فالحرص على رضا الإمام (ع) يقتضي التوقُّف حتى يتمَّ التعرُّف على صحَّة هذا العمل أو عدم صحَّته. هذا هو الميزان الذي أكد عليه أهل البيت، وهذا أحد فوائد الوجود المبارك للإمام الحجَّة بين أظهرنا.
تذكروا أيُّها الأخوة الأعزاء أنَّ الإمام (ع) هو عين الله في أرضه كما أكدت الروايات، وأنَّ أعمالنا تُعرضُ عليه في كلِّ حين فيسوؤه أنْ يجدَ من أعمالنا ما يُخالف شرعَ الله عزَّ وجل، ويستبشرُ عندما يجدُ في أعمالنا ما يقرِّبُ إلى الله عزَّ وجل. إيَّانا أنْ نتصور أو نتوهَّم أنَّ الولاء للإمام الحجَّة هو مجرَّد الحب الذي لا ينعكسُ على السلوك، ولا ينعكسُ على الإيمان ولا ينعكس على الاعتقاد، ذلك حبٌ قد لا ينفعك، وإنْ نفعك فإنَّ نفعه سيكونُ ضئيلاً.
ما معنى قوله (ع): حتى تُغربلوا؟
ورد عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: “.. لا يكون فرجُنا حتى تُغربلوا ثم تُغربلوا ثم تُغربلوا، يقولها ثلاثا، حتى يذهب الكدر ويبقى الصفو”([1]).
الغربلة هي التصفية والتنقية لمثل القمح المختلط بالتراب والأقشاب ويتمُّ ذلك يتحريك الغربال تحريكاً شديداً تتطاير به الأقشاب والقشور وتتسرًّب الأتربة من بين مسارب الغربال وكلَّما اشتدَّ رجُّ الغربال وتحريكه تخلَّص القمحُ ممَّا تبقى من القشور والأتربة العالقة به في الغربال حتى لا يبقى فيه سوى لباب القمح، فمفادُ الرواية أنَّ الكثير ممَّن يرون أنفسهم أنَّهم في ركب الإمام (ع) سوف يتهاوون ويتسرَّبون كما يتسرَّب التراب في حال غربلته مع القمح في الغربال، فكلَّما تمادى الزمن واشتدَّت المِحن وكثرت الفتن وترادفت الأهواء والشبهات ازداد عددُ المتخلِّفين عن ركب الإمام (ع) حتى لا يبقى سوى الصفو ويذهب الكدر ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾([2]).
فلنحرصْ على أنْ نكون في اللُّباب الذي لا يذهب جفاءً بعد الغربلة والتمحيص، وكيف نكون كذلك؟ عندما نحرصُ على رضا الإمام، والذي هو امتدادٌ لرسول الله (ص) والراعي لشرع الله، والحريص على تمثُّل أحكام الله، فلن يرضى بأنْ نخالف أحكام الله ثم نكون في ركبه، ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾([3])، الإمام (ع) لا يقبل المضلِّين، ولا يحفلُ بالفاسقين المتجاوزين لحدود الله والمنحرفين عن منهاجه غير المبالين بمرضاته، فهو في منئىً عن كلِّ هؤلاء وإنْ ادَّعوا أنَّهم في ركبه وتحت رايته.
ما الجدوى من الاستعداد فقد نموت قبل يوم الظهور:
ثم علينا المحاذرة من تسرُّب الوهن إلى نفوسنا فإنَّه من تسويلات الشيطان، نقول ما الجدوى من الاستعداد، فالكثيرُ ممَّن مضوا قد أجهدوا أنفسهم ثم ماتوا ولم يُدركوا يوم الظهور فذهب استعدادُهم أدراجَ الرياح، وكذلك نحن كم مضى من أعمارنا وكم بقيَ منها فقد نموتُ دون إدراك يوم الظهور!!
إنَّ مثل هذا الشعور البائس يبعثُ على الوهن والتقهقر ويُفضي إلى سوء العاقبة، إنَّ المؤمن -كما أفاد أهلُ البيت (ع)- إذا أعدَّ نفسه ليوم الظهور المبارك، ثم أدركه الموت، فرحل إلى ربِّه، فإنه يُكتب عند الله من أنصار صاحب الأمر، وهذا الوسام هو الغاية التي يحرص المؤمن على بلوغها، فهو إنَّما يستعدَّ ليبلغ هذه الدرجة، درجة المؤتمِرين بأمر الإمام والمستشهدين بين يدي الإمام (ع) هذه الدرجة يُمكن لكلِّ أحدٍ تحصيلها حتى وإن لم يتشرَّف برؤية الإمام ولم يتشرَّف بالاستشهاد بين يديه، غدا يُحشر في ركب الإمام (ع) وفي أنصاره ويحظى بشفاعته ومرافقته في الجنَّة ويكون ممَّن قال الله تعالى فيهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾([4]).
إذن، فبهذا العمر القصير يستطيعُ المؤمن أنْ يُكتَبَ في سجلِّ أنصار الإمام المهدي (ع) وإنْ لم يُوفَّق لرؤيته والتشرُّف بالكون في دولته. لذلك فعلينا العمل والاستعداد والجدَّ في مجاهدة النفس دون أنْ نُدخِلَ في حسابنا متى سيظهرُ الإمام(ع)، فالغرضُ هو أنْ نكون في مرضاة الله عزَّ وجل، وأن نُحشرَ يوم القيامة وقد أدَّينا الحقَّ الذي في أعناقنا والبيعة التي بايعنا بها صاحبَ العصر والزمان، فحين نُؤدِّي حقَّ هذه البيعة، عندئذٍ سوف نُحشر يوم القيامة ونحن في زمرة الإمام وفي ركبه، وننال درجة الذين سوف يُستشهدون بين يديه، وفيما عدا ذلك سوف لن نكونَ في ركبه، فحتى لو ظهرَ الإمام (ع) ونحنُ على قيد الحياة لكنَّنا لم نستعدَّ ولم نُروِّض أنفسنا ونجاهد أهواءنا فإنَّنا فلن نحظى بشرف اللِّحاق بأنصاره وأتباعه.
والحمد لله رب العالمين
[1]– الغيبة -الطوسي- ص335.
[2]– سورة الرعد / 17.
[3]– سورة الكهف / 51.
[4]– سورة الأحقاف / 16.